First anniversary of the Maronite Foundation in the World
 
 

كلمة معالي الأستاذ ميشال اده
في احتفال تكريمي له في دير مشموشة
٢٠٠٩ / ١٠ / ١٠

أيّها الأصدقاء الأعزّاء

صدّقوني : المرء بلا أصدقاء، كالطير البلا أجنحة .
فتحية الشكر العميق العميق إليكم جميعاً، فرداً فرداً . الى المبادر للدعوة لهذا اللقاء المحبّ، العزيز العزيز شارل الحاج . والى مشاركتكم النبيلة فيه .

أمّا تحيّة التكريم الذي ينطوي عليه هذا اللقاء، فمعقود لواؤها ومرفوع ألقها وعطرها لغبطة أبينا الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق الكلّي الطوبى، المبادر بنظرته الاستشرافية الى تأسيس وإطلاق «المؤسسة المارونية للانتشار ». والتكريم أيضاً لأعضاء مجلس أمنائها ولجميع المساهمين بتفعيل هذه المؤسسة وتعزيز حضورها الحيوي، حفاظاً بالتحديد على لبنان شعباً، وكياناً، وصيغة مجتمعية، فريدةً بتنوّعها الديني وعيشها المشترك والحرية والديموقراطية . وهذا من خلال رعاية شؤون الانتشار الماروني بارتباطه العضوي بكنيسته الأم وبوطنه الأم .
نطاق العمل والحركة ماروني، لكنّما الغاية لبنان .

جميعنا يعلم أن أعداد الموارنة المنتشرين في أرجاء العالم باتت أضعاف المقيمين منهم في وطنهم اللبناني . مثلما نعلم جميعاً العوامل المتعدّدة التي شكّلت بالنسبة للمسيحيين، وللموارنة منهم بخاصة، عنصراً دافعاً حملهم على الهجرة . سواء بالنسبة لموجة الهجرة القديمة الأولى المعروفة منذ أواخر القرن التاسع عشر، أو بالنسبة للموجات اللاّّحقة التي تسبّبت بها الحروب التي اشتعلت على أرض لبنان . أو تلك التي دارت في المنطقة وكان لها تداعياتها السلبية على اللبنانيين . مروراً بعدوان إسرائيل المستمرّ على لبنان بخاصة واحتلالها جزءاً من أراضيه . وكذلك، وبالأخصّ، حروب الاقتتال الداخلية التي فرضت على اللبنانيين، وما تسبّبت به من هجرة ومن تهجير قسري للمسيحيين والموارنة بخاصة، لا سيما وأنّ رحاها دارت بغالبيتها في المناطق الآهلة بالموارنة أصلاً، ومنذ القدم .

وهذا كلّه، ناهيك عن وضعية اللاّ استقرار السياسي والأمني، فضلاً عن الأزمات والتردّي المتواصل طيلة عقود في الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية السياسية، وضيق سبل المعيشة في ربوع لبنان .
هذه العوامل أرخت بثقلها المدمّر، وبالطبع، على جميع عائلات لبنان الروحية وحملت العديد من أبنائه من مختلف الطوائف والمذاهب، على الهجرة . لكنّه يتعيّن علينا أن نعترف هنا بأنّ الموارنة خاصة، والمسيحيين عامة، هم الذين تعرّضوا، ويتعرّضون، وبصورة موضوعية، من بين سائر لبنانيي الانتشار، الى مخاطر الاندماج الكلي والذوبان في مجتمعات بلدان هذا الانتشار، وليس أخوانهم المسلمين . إنّ اعتناق المسيحيين المنتشرين للكاثوليكية بأغلبيتهم الساحقة، وللأرثوذكسية بأعداد منهم، إنّما يشكّل بذاته عنصراً مسهّلاً جداً للاندماج في بلدان ومجتمعات كاثوليكية، أو مسيحية الدين بعامة .

أمّا بالنسبة للمنتشرين اللبنانيين المسلمين فالدين الإسلامي يشكّل نوعاً من حاجز مسبق مانع، يصعّب جداً سيرورة اندماجهم في البلدان المسيحية الدين بعامة . أضف الى ذلك الانفتاح والاختلاط مع الآخر، والتمكّن من اللغات . وهي خصوصية يتميّز بها الموارنة والمسيحيون بعامة بموجب قابليتهم على التعايش، والتزاوج، والتواصل الطبيعي مع مواطني بلدان الانتشار المسيحيي الديانة . وهو ما يجعل المنتشرين الموارنة متوزعين، عملاً وسكناً، في مختلف المدن وأحيائها، وحتى البلدات والأرياف في بلدان الانتشار كافةً . ولم يعرف عنهم أبداً، أنّهم نظّموا أنفسهم وعيشهم مجموعات مع بعضهم البعض، أو ضمن مناطق أو مدن معينة دون سواها، أو في أحياء حصرية معينة دون سواها . في حين بدا أنّ مواطنيهم المسلمين المنتشرين يميلون الى تفضيل التجمّع الى بعضهم البعض والعيش معاً في مناطق أو مدن معينة . ولذا، فإنّ نسبة اندماجهم التام في مجتمعات الانتشار متدنّية، قياساً لمواطنيهم المسيحيين . وفي هذا السياق، تجدر الملاحظة أنّ ظاهرة التزاوج لديهم من غير المسلمين تظلّ حالة استثنائية نادرة، بفعل عاملَيْ الدين والخصوصيات الأخرى .

لقد أدّت هذه المعطيات مع الوقت، وما تزال تؤدّي باستمرار، الى إحداث خلل جدي في الصيغة المجتمعية اللبنانية، لا تقتصر أضراره على طائفة أو مذهب معيّن، بل تُـمْنى بها جميع مكوّنات نسيجنا اللبناني بعائلاته الروحية كافةً .
فبمجرّد عدم تمكّن أي مجموعة من المنتشرين من الاحتفاظ بجنسيتهم اللبنانية أو من استعادتها -وهو المعبَّر عنه أساساً في تمكّنها من تسجيل الزيجات والولادات- مقابل إمكان مجموعات أخرى من القيام بذلك، فلسوف نقع في خضمّ ذلك الخلل، بل الخطر الداهم.

وهنا تتعيّن الإشارة بخاصة الى أنّ موجة الهجرة الأساسية التي شهدها لبنان إنّما حدثت منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكانت هجرة مسيحية الطابع بصورة شبه كليّة. وكان الموارنة فيها هم الأغلبية الساحقة.

وليكن معلوماً هنا، أنّ القوانين المعمول بها في بلدان الانتشار في تلك الحقبة، ولا سيما في الأميركتين وأوستراليا ومعظم بلدان أوروبا وأفريقيا، كانت تحظر على اللبناني الذي حصل على جنسية البلد المضيف احتفاظه بجنسيته اللبنانية، ولا تجيز لأولاده الحصول عليها. والجدير بالذكر، أنّ هذا الحظر لم يرفع إلاّ منذ عقود معدودة فقط. غير أنّ تداعيات ذلك السلبية بالنسبة لأجيال المنتشرين، ما تزال تشكّل حتى الآن عقبة كبرى تتمثّل أساساً بصعوبة الحصول على المستندات المطلوبة لاستعادة  الجنسية، بعد مرور نصف قرن وأكثر على استقرار المهاجر في بلد الانتشار.
هناك أيضاً صعوبات أخرى لوجستية وإدارية. ومنها أنّ عدد القنصليات اللبنانية في بعض بلدان الانتشار التي تفوق مساحتها الملايين من الكيلومترات المربعة، ضئيل جداً ولا يتجاوز قنصليتين أو ثلاثة. وعدد الموظفين العاملين فيها قليل جداً أيضاً. ناهيك عن القيود والصعوبات البيروقراطية التي تؤدي الى تيئيس المواطنين الذين يرغبون بتسجيل زيجاتهم وولاداتهم.

إنّ أخطر التحديات التي تواجه الكنيسة المارونية إنّما يتمثّل باثنتين : الذوبان المجتمعي في بلدان الانتشار، والذي يعني حكماً تراجع وفقدان الإحساس بالانتماء الماروني واللبناني. والخلل الجذري في التوازن الداخلي ضمن التركيبة اللبنانية. فإذا لم تتمكّن الكنيسة المارونية من المحافظة على أواصر التواصل المستمرّ بين المنتشرين من أبنائها ووطنهم الأم وكنيستهم الأم، ومع البطريركية المارونية في لبنان باعتبارها عامل وحدة الكنيسة المارونية والمرجعية الأساس للموارنة أينما كانوا، فالمارونية والموارنة - ومعهم لبنان- مهدّدون بخطر الزوال.

على هذا، تتجلّى أهداف «المؤسسة المارونية للانتشار» بكونها وطنية الطابع لا فئوية الهوى والغرض. ما دام أنّ هاجسها الأوّل الحفاظ على حقيقة لبنان وميزته بآن : بكونه قد انفطر على التنوّع وليس التجانس الديني. وما دام أنّ جذور لبنان، بل مناعته في استمراره وديمومته، إنّما هي نعمة تنوّعه الديني الذي هو علّة وجود لبنان. ونعمة عيشه المشترك في ظلّ نظامه الديموقراطي البرلماني الذي انتبه اللبنانيون، مجتمعين متّفقين منذ البدء، الى وجوب أن يتأسس على مبدأ التمثيل السياسي لجميع عائلاته الروحية، بما يؤمّن مشاركة الجميع ومسؤوليتهم في إدارة شؤون الدولة. وهي الصيغة التي انتقلت مع وثيقة الوفاق الوطني في الطائف الى دستورنا على أساس مبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين بصرف النظر عن العدد.

هذا اللبنان يستحقّ من كلّ منّا، أيّها الأصدقاء، أفضل ما عنده، لأنّه في مقدّمة البلدان الديموقراطية في العالم.
إذْ ما هي الديموقراطية الحقّة ؟ إنّها أوّلاً، وقبل أيّ شيء آخر، الحق في الاختلاف، وقبول الآخر واحترامه باختلافه. أ وَ ليس هذا بالذات جوهر صيغتنا ؟

أجل ، هذه الصيغة المجتمعية التي تتعرّض، من حين لآخر، الى نوع من جلد ذاتي عاقّ، والى تسفيه جائر، بزعم أنّها «نظام الطائفية السياسية البغيضة» - كما يحلو للبعض أن يردّد - هي التي ارتضتها عائلات لبنان الروحية فيما بينها، وراحت تنسجها معاً منذ أكثر من ألف وثلاثمئة سنة. وهي جميعها سرعان ما تبادر الى التمسّك بها وبعيشها المشترك، وتفيء إليه فور توقف أحداث العنف التي غالباً لا بل دائماً ما كانت تحرّكها عوامل أو رياح تهبّ من خارج لبنان. لماذا ؟
لأنّ هذه الصيغة إنّما تجسّد الديموقراطية الحقّة. وهذا، في حين أنّ بلداناً عديدة في العالم وكانت متجانسة دينياً أو إتنياً أو ثقافياً من قبل، وممّن تعتبر نفسها ديموقراطية عريقة، بدأت تعاني اليوم من قلاقل ونزاعات حادّة. وهي نزاعات ناجمة بالتحديد عن عدم قدرة هذه البلدان على التكيّف والعيش مع الأقليات الإسلامية المتزايدة داخل هذه البلدان وتحمل جنسيتها.

وفي السياق ذاته، تجدر الإشارة كذلك الى انعدام القدرة لدى عديد من البلدان الإسلامية، العربية وغير العربية، على التكيّف والعيش مع الأقليات المسيحية المتواجدة في هذه البلدان، بل العريقة الوجود أصلاً في اللّبنات الأولى لتكوّن هذه البلدان بالذات.

بإزاء هذه الوقائع اللاّ ديموقراطية أبداً، والمنذرة بالمخاطر على بنية المجتمعات بالذات، تبرز تركيبتنا اللبنانية مثالاً مجتمعياً فريداً حقاً.
وهذا ما عناه تحديداً قداسة الراحل الكبير البابا يوحنا بولس الثاني، والذي أدرك غنى صيغتنا المجتمعية وأهميتها القصوى. فاعتبر لبنان قدوة ومثالاً يحتذى. بل رسالة للعالمين. وليس فقط مجرّد بلد كسائر البلدان.
هل أنّ ذلك كلّه يعني خلّو ممارسة اللبنانيين، لا سيما السياسيون منهم، من أي عيوب تعتري نظامهم الديموقراطي في الحكم، كما تشوّه علاقة المواطن بالدولة، ولا تقضي على مظاهر الفساد والرشوى والمحسوبية والارتكابات التي ما تزال تعاني منها أصلاً أعرق الديموقراطيات في العالم، والتي لا يوجد فيها بالأصل نظام تمثيل سياسي للطوائف ؟

قطعاً لا. لكنّ هذه العيوب والنواقص والارتكابات لا تتصحّح أصلاً إلاّ بالمزيد من الديموقراطية، وإلاّ بإقامة دولة الحق التي يشعر معها اللبناني ويطمئن تماماً بأنها، الدولة، هي مرجعيته الوحيدة. فلا يعود مضطراً من أجل تحصيل حقوقه المشروعة كمواطن الى الالتصاق او الارتباط التبعيّ بالزعيم أو الحزب السياسي الذي غالباً ما يستغل الانتماء الديني والمذهبي لتكريس زعامته. فالمشكلة عندنا ليست في طبيعة نظامنا القائم على التمثيل السياسي لطوائف لبنان ومذاهبه. بل هي في غياب دولة الحق.

من موقع الحفاظ على هذه الصيغة وعلى هذا الوطن الرسالة، فإنّ جميع المساهمين بالعمل في إطار «المؤسسة المارونية للانتشار»، يؤدون واجباً لبنانياً وطنياً وليس فئوياً ضيّقاً. واجب خدمة لبنان في النهاية، من خلال المحافظة على أواصر التواصل بين الموارنة المنتشرين والوطن الأمّ، تعزيزاً لأواصر العيش المشترك بين اللبنانيين كافةً.

أيّها الأصدقاء الأعزّاء !
كلّنا قادر على العطاء. واجبٌ ديني ووطني علينا كلّنا هذا العطاء من أجل لبنان التنوّع، لبنان الانفتاح، لبنان حوار الأديان والحضارات وتخاصبها، لبنان الديموقراطية والحرية، لبنان الأكثر من دولة، لبنان الرسالة.

Copyright Maronite Foundation 2009. All rights reserved